الكثير من القصص تختبئ خلف هذه السيمفونية، تخلق لها هالةً غريبة.. أحيانًا أشعر أن جزء كبير من شهرة قدَّاس الموت قد اكتسبتها من القصص التي حيكَت عنها وعن ارتباطها بموت عبقريّ الموسيقى موزارت.
من المعروف أن موزارت أُصيب بمرض السل قبل وفاته، ولكن موته في سن الخامسة والثلاثين وسيمفونيته الأخيرة -غير المكتملة- قد أثارت الكثير من الشكوك حولها.
قيل أنه طُلِبَ من موزارت أن يكتب سيمفونيةً تُعزَف على جنازته عندما ازداد مرضه فعمل على «القدّاس الجنائزي» ولم يستطيع إنهائها؛ إذ داهمه الموت فأكملها أحد طلبته وهو فرانز خافير سوسماير.
معزوفة قداس الموت
ولكن هُناك قصة غريبة روتها زوجة موزارت بعد وفاته بفترة وجيزة، تقول كونستانس موزارت أنهُ في مطلع العام 1791 -عام وفاته- جاء رجل غريب يرتدي الأسود وعلى وجهه قناع يخفي ملامحه، قَدم إلى شقة موزارت في ڤيينا وطلب منه كتابة «قدّاس الموتى» مُقابل مبلغ مجزي.
في ذلك الحين كان موزارت يعاني من فشل أحدث عمل أوبرالي لهُ «دون چيوفاني» فسارع بالموافقة واستلم الدفعة الأولى من المبلغ، لم يطل ذلك الغريب بالبقاء فخرج بعدما أكد على موزارت عدم السعي لمعرفة من أرسل في طلب السيمفونية.
حينها عمل موزارت جاهداً على تلك المقطوعة، حتى أنه تعرض للإغماء عدة مرات، ومع ذلك لم يتوقف عن العمل عليها.
تقول كونستانس واصفة حالة زوجها الذهنية «كان دائمًا ما يجلس في هدوء غارقًا بأفكاره، وفي النهاية لم يعد ينكر هذه الأفكار؛ لقد كان يعتقد يقينًا أنه يكتب هذه المقطوعة من أجل جنازته»
فرانس نيمتشك -أحد كاتبي سيرة موزارت- دعم هذه النظرية؛ فقد روى في عمل له عن حياة موزارت عام 1798 (بدأ موتسارت في الحديث عن الموت، وصرّح أنه يكتب القدّاس الجنائزي من أجل نفسه.
وتساقطت دموع هذا الرجل مرهف الحس، ثم واصل قائلاً: «لدي شعور قاطع بأنني لن أعيش لأطول من ذلك، أنا واثق من أنني قد تعرضت للتسمم»)
منذ عام 1792 بدأت إشاعة تسمم موزارت بالظهور، عندما كتبت صحيفة برلينية (نظرًا لانتفاخ جثته بعد الوفاة إن الناس يظنون أنه تعرض للتسمم).
كان فرانس هوفديميل من أوائل المشتبه بهم؛ فهو زوج إحدى تلميذات موزارت وقد تعدَّى عليها بالضرب ثم انتحرت في يوم جنازة موزارت.
هذا الأمر دفع البعض لتخمين أن زوجته كانت حبلى بطفل من الموسيقار، ولكن لم يكن هناك دليل حقيقي يربط هوفديميل بموت موزارت؛ لذلك تعتبر هذه النظرية ضعيفة.
وفي القرن التاسع عشر ظهر اسم انطونيو ساليري في دفاتر المحادثات الخاصة ببيتهوفن؛ فقد كان ضيوفه يحادثونه بمجلسه من خلال الكتابة؛ لأنه أصم.
بحديث دار بين كارل نجل بيتهوفن ورجل آخر يدعى انطون شيندلر كُتِب أن ساليري اعترف بتسميم موزارت.
وإن أردنا البحث عن دافع ساليري فهو الحقد، لم يُطق ساليري أن يتفوق عليه موزارت في البلاط الڤييني، لاسيما أنه متغطرس وفظ في حين كان ساليري لطيف ومهذب.
وكان أول من اكتشف هذه الفكرة هو ألكسندر بوشكين حيثُ عرضها في مسرحية عام 1830، وبعدها ظهرت مسرحية أماديوس لبيتر شافر على مسرح برودواي التي نجحت نجاحًا باهرًا وتحولت بعدها لفيلم سينمائي.
في هذا السيناريو قدم الكاتب ساليري كموسيقار عادي لكنه بالغ الخطورة لم يحتمل رؤية موهبة موزارت وفظاظته، ولكن لم يصوره كقاتل بل جعله أداة لتعجيل موت موزارت من خلال مكائده التي جعلت الضحية في ضعف ويأس.
ولكن المشكلة هو عدم وجود دليل يثبت صحة هذا الاتهام.. فالإعتراف المزعوم لم يتكرر خارج دفاتر ملاحظات بيتهوفن، بل على العكس؛ فبحسب يوميات إجناتس موشيليس عازف البيانو وأحد تلامذة بيتهوفن أن ساليري أنكر تسميمه موزارت.
وهناك نظرية أخرى ترى أن المجرم في وفاة موزارت هم أطباءه؛ فقد روت كونستانس استنزاف الأطباء له على دوائه، ومع جسده الهزيل ومرض الكلى الذي عاناه عمول هذا الدواء في وفاته.
أما في وثيقة الوفاة فقد أُدرج أن سبب وفاته «حمى دخنية شديدة» وهذا يتنافى مع الأعراض التي وُصِفت من قِبل زوار موزارت فرجح المؤرخون الطبيون إلى أنه عانى من مجموعة أمراض منها إلتهاب الشغاف البكتيري، متلازمة هيونخ شونلاين، اللوكيميا، التهاب الشعبي الرئوي بالعنقوديات، ونزيف بالمخ.
أما اعتقاد موزارت الشخصي بأنه تم تسميمه فرجح الأطباء أنه هذيان أو بسبب الإكتئاب بسبب أي من الأمراض التي سببت وفاته.
وبعد وفاته بـ 173 عام ظهرت حقيقة الرسول الغامض؛ ففي عام 1961 نُشرت وثيقة بعنوان «التاريخ الحقيقي والتفصيلي للقدّاس الجنائزي لدبليو إيه موزارت، بدءًا من تأليفه عام 1791 حتى الفترة الحالية 1839» بقلم أنطون هيرتسوج وهو موسيقي كان يعمل لدى كونت فون فالسينك.
يقول أنطون إن الكونت فالسينك كان مولعًا بالموسيقى وفي فبراير عام 1791 توفيت زوجة الكونت فقرر إحياء ذكراها بقداس مهيب؛ لذا أرسل أحد الخدم إلى موزارت بعرض سخي وتحذير من معرفة المشتري -كالعادة -.
كان هيرتسوج ورفاقه الموسيقيون يسايرون سيدهم، يقول «معروف لنا جميعًا أن الكونت يريد تضليلنا مثلما فعل مع المقطوعات الأخرى التي اتفق عليها، ففي حضورنا كان دائمًا يقول إنها من تأليفه، ولكنه كان يبتسم عندما يقولها».
وهكذا فإن قدّاس الجنائزي أُلِّفت بسبب لص وليست نذير موت، قد تكون كونستانس قد نشرت قصة الزائر المجهول لتساعد في نشر أعمال زوجها الراحل، وفعلاً قدّاس الجنائزي تعتبر من أروع وأشهر مؤلفات موزارت.
قصصٌ عديدة ونظريات مختلفة.. لكن أرى أنهم جميعًا أهملوا حقيقةً مهمة؛ وهي أن موزارت كان فنانًا يعيشُ على أنغام موسيقاه!
من يستمع لموسيقى موزارت سيجدها مليئةً بالسعادة والأمل والحب.. مفعمةً بالحياة.
لن يتوقع يومًا أن هذا الموسيقار العظيم قد عانى بحياته..رغم أن حياته مليئة بالمآسي.
لم يؤثر عليه المرض، الجوع، الحاجة، الفقد من أن يُكمل مسيرته لأن الموسيقى كانت معه.
كان أغلب وقته فقيرًا، ومع ذلك كان لا يلبس إلا ما يكاد ينطق من فخامته. وضحكتهُ التي أبدع توم هولس -مؤدي دور موزارت في فيلم أماديوس- في تقليدها! إن استمعت لها لظننت أن صاحبها لم يعرف البؤس يومًا، إنها من تلك الضحكات التي تسرق القهقهات من بين شفتيك!
ما أراهُ هو أن موزارت قتل نفسهُ بنفسه، وكانت تلك المعزوفة شريكة في الجُرم.. كيف ينجو من يتنفس على موسيقى الأمل إن قام بتأليف معزوفة الموت؟
كتابة: أوكتان.
תגובות