top of page
أروى

رأي: كيف يمنحنا الفن الحياة؟

تاريخ التحديث: ٨ يناير ٢٠٢١







بعد أن تمنحنا أمهاتنا الحياة، يُعيد الفن إحياءنا ويُنجينا من العدمية التي فُرضت علينا في مجتمعات تعتبر الفن والأدب كماليات لابد من الاستغناء عنها.

لطالما كان الفن حولنا، نقطفه في أحاديثنا ونزرعه بأيادينا دون أن ندري. فبماذا سيفيد تعليم الفن، الأدب والموسيقى في المدارس؟


يعتبر الفن بجميع أبوابه متنفَسًا عن مكنونات النفس البشرية، لأنه يجعلها تتجسد في أعمال يمكن أن تظل خالدة مهما توالت عليها القرون.

مثلا، كان دافنشي ذا عقل يعج بالأفكار المبدعة والمجنونة، ولو لم يتواجد الفن لتركها تتزاحم حتى يفنى وتفنى معهُ، إلا أن الرسم منحه فرصة ليُخلد فكره الفريد للبشرية. أما عن فان غوغ فقد كان رجلاً مريضًا يعاني من تقلباته النفسية، وهو الأخر وجد متنفسًا على القماش والألوان.


وبالذهاب لـكافكا ستعرف -إن غصت في جوف كلماته- أنه شخص بإمكانك استشعار عذابه وأسوأ ما عايشه. وكذا بيتهوفن الذي جسد أصواتًا يفتقد لسماعها... وغيرهم الآلاف الذين استنجدوا بالفن، فرسم لهم مهربًا وخلصهم من أفكارهم ومعاناتهم ومآسيهم.


في يومنا هذا، تحرص المدارس على تعليم الطفل مختلف العلوم؛ كالرياضيات والفيزياء والأحياء وحتى التاريخ والجغرافيا، فتنهك كاهله الضئيل بمناهج مكثفة وتثقل محفظته بالكتب الثقيلة، مما يجعله كائنًا هشًا يُرهبه شبح النقاط، ويصير متخوفًا دائمًا من توبيخ مدرسيه وأهله له إن أخفق، فيُمسي عالقًا متخبطًا بين هواجس الفشل والنجاح.


وهناك من يتسم بالضّعف وينجرف مع موجة التمرد، فتجده يترك المدرسة في سن صغيرة ويلجأ للشارع الذي سيكون له مدرسةً بديلةً، إما أن تعلمه تحمل المسؤولية بعمر مبكر، وإما أن تجره في دوامات أخرى لا يحبذ أي والد أن يرى ابنه عالقًا فيها.


وإن كان قويًا كفاية وتعلم التعايش مع ذلك الشبح، فسيصمد أكثر أين سيقابل بعبعًا أكثر رعبًا من الذي قبله، وهو بعبع الشهادات ودخول كليات تضمن له مستقبلاً زاهرًا، ثم يكبر ويجد عملاً -إن كان محظوظًا-، أما في قرارة نفسه فهو مجرد إنسان مرهق وتعيس، وإن عانى من البطالة فستكون حاله كحال سابقه. هكذا تمر دورة حياة الطفل الرتيبة، رعب نفسي وإرهاق عقلي وتعاسة مخفية في باطنه، فيعيش حياةً خاليةً من الجماليات، حياةً عدمية بحتة.


لكن ماذا لو أدخلنا الفن في مناهجنا وأوفيناه حقه؟


وحين أقول تدريس الفن لا أقصد إدراجه كمادة يحاسب عليها فتصير منفرة كغيرها، وإنما تدرسيها كمادة جانبية تضفي رونقًا على حياة المتمدرسين؛ كتدريسهم الموسيقى وتعليمهم كيف يشعرون بكل نوتة على حِدى، كيف يرون المقطوعة بأعينهم ويُصغون لها بأرواحهم.

أو ربما تلقينهم الشعر الذي سيُريهم حتمًا حلاوة اللغة وبحورها الواسعة، وتلاوة بعض الأشعار ذات المعاني العميقة على مسامعهم علّها تولد فيهم نهضة روحية.


وتليها حصة رسم، ستوصل لهم شعور إمساك الفرشاة الناعم وتحريكها على الورق، وتعرفهم بلوحاتٍ تنبض حيويةً رغم سكونها، فيكتسبون مهارة جعل أي جماد مفعمًا بالحياة بلمسات بسيطة.


بالإضافة إلى تدريبهم على المطالعة، وجعلها عادة من عاداتهم التي لا يمكن أن يستغنوا عنها، فهي تمنح فرصًا استثنائية لعيش حياة ثانية، والحظي بمغامرات وزيارة عوالم فريدة دون تحريك ساكن.


وبعد عدة جولات بين ظلال الفن العريق، سنجد أننا صنعنا جيلاً من أطفال عرفوا كيف يؤدون حيواتهم، ووصلوا إلى مرحلة سامية من مراحل الارتقاء النفسي وأصبحوا فنانين؛ فنجد هذا رسامًا والآخر أديبًا، تلك موسيقيةً والأخرى شاعرةً… وبذلك نكون قد تحصلنا على نخبة من خريجي مدرسة الفن، وكوّنا أناسًا يجيدون التعبير عن أنفسهم حين تتراكم عليهم هموم الحياة، المشاكل الأسرية وأثقال المناهج الدراسية.

الفن يساعد على فهم طبيعة النفس البشرية، فنجد الطفل يعبر عن مخاوفه ورغباته من خلاله، نظرا لكونه أكثر وسيلة تعبير حضارية وسلمية على مر العصور، وهو لغة حرة، ترتقي بالمرء إلى الفضيلة. والأخذ بيد الطفل إلى عالم الفنون وتعليمه هذه اللغة سيغنيه عن انفعالاته النفسية الحادة، ويستبدلها بأخرى أكثر سلمًا ورُقيًا.


كما أن الفن بجميع أصنافه يوسع رؤية المرء وينعش بصيرته ويجعله يفهم هذا العالم بشكل معمق، بالإضافة إلى كونه يلغي حدود الفكر التي وضعتها تقاليد المجتمع ويفتح آفاقًا فكرية أوسع وأكثر تحضرًا.


إنه بمثابة متنفس أو مهرب يلجأ إليه كل امرئ حاصرته مشاغل الدنيا التي لا تنتهيِ؛ فعلى سبيل المثال نرى في أداء الممثلين رسائل روحية يبعثونها عبر خشبة المسرح، وفي حركات الراقصين المتناسقة مع الموسيقى التي تحيط أجسادهم مشاعر واقعية، ناهيك عن الفرص الذهبية التي تمنحنا إياها الكتابة، فهي تسمح لنا بإفراغ أحاسيسنا وإيصال أفكارنا بشكل منظم. وكذلك الموسيقى التي تحيي الروح وتذيب كل الجليد المتراكم عليها. الفن بصفة عامة يمنحنا القدرة على التواصل مع أنفسنا والآخرين.


ولا شك بأن التعبير عن النفس من خلال الفن أهون بكثير من اللجوء إلى العنف، وصراع الأقلام والعقول أعظم بمراحل من صراع السيوف والأسلحة وإراقة الدماء.

في الواقع تعليم الفن ليس حكرًا على المدراس فقط، وإنما وجب على الأهل تعليم أبنائهم كيف يجدون الجمال في أبسط الأشياء وتشجيعهم على ممارسة الفنون منذ صغرهم، وعند دخولهم إلى المدرسة، سينظرون للرياضيات على أنها فن كذلك، وليست مجرد أرقام عشوائية، وسيرون اللغة فنًا عريقًا، فيتلهفون لدراستها والغوص فيها، وهكذا سيكتشفون أن لكل مادة جمالها الخاص.


كما يجب على الأهل تشجيع أبنائهم على ممارسة هواياتهم، دعمهم ماديًّا ومعنويًّا، ومنحهم حبًا كافيًا للمواصلة بدل كبحِهم وجعلهم يرون أن في الفن محرمات لزم الابتعاد عنها.

أخيرًا، لا يُمكننا أن ننفي كذلك قدرة الفن الشفائية وكيف يعالج النفوس ويحولها من هشة إلى قوية، ويعزز ثقة المرء بنفسه ويبني شخصيته، ولطالما كان الفنانون أشخاصًا مسالمين يقدسون النفس البشرية، فماذا لو بنينا جيلاً كاملاً منهم؟ سنقلل الحروب أو نعدمها، ونُشِيع فيهم الإنسانية وحب الخير والرغبة في تحقيق مجتمع حُر وآمن.


وهكذا يمكننا أن نعلم أبناءنا السلم والأمن والتعايش مع كل الأجناس مهما كانت اختلافاتها، دون أن يشعروا برغبتنا الملحة في تعليمهم هذا.


وكما تخلق الحرية من رحم الأزمات، ينبعث الفن كذلك من وسط تخبطات النفس البشرية.

الفـن هو الحرية، وما الفنانون إلا بشرٌ يمتَلكون أرواحًا حرة.



كتابة: أروى مراجعة: فاوانيا


٤٦ مشاهدة٠ تعليق

منشورات ذات صلة

عرض الكل

Comments


bottom of page