top of page
رنيم

ذات: طفولتي مع السرطان

كان مرض السرطان هو الدافع الذي جعلني أدخل بمجال الطب وأخوض فيه.

ومع أن الأمراض عادة ما تجلب المشقة، لكنها أحيانا تكون الدافع للتغيير. لم أعتبره يومًا شيئًا سيئًا، بل استمريت بالنظر للأمر بمبدأ «رب ضارة نافعة» رغم كل ما جرى.



ولدت بعائلة كانت فيها الأم مصابة بهذا المرض، وللأسف كانت الإصابة بعد عدة سنوات من ولادتي، لذلك لدي ذكريات عديدة لشكلها أثناء المرض، وهذا لم يكن شيئًا جيدًا لطفلة.


في فترة ما لم تستطع الاعتناء بي وبأختي، بل استعانت بأهلها لرعايتنا. كانت تلك السنوات مؤلمة لحد الآن؛ البعد عن أمك وأبيك لأنهما بوضع صعب، ولا طرف مذنب في الأمر، بل الظروف حكمتك!


كنت صغيرة ومن الطبيعي أنني لم أستطع تقديم الكثير، ومع هذا لم تكن تلك الحالة دائمة؛ فأمي وبالرغم من مرضها عادت وأخذتنا، وهناك بدأنا...

صغيرة آنذاك، لكني واعية؛ كنت السند في وقت كان أغلب من هم بجيلي يسعون للّعب. لم أهتم، بل لم افكر بالذهاب للمرح، حتى إني لا أجيد أية لعبة مع سني الآن، فقد أمسى همي الأول والوحيد أن أرى أمي بصحة وعافية من جديد.


«البداية دومًا سهلة إن اكتشفنا المرض.»

هذه المقولة التي لطالما سمعناها ليست دومًا صحيحة؛ فحتى مع عِلمنا بإصابتها مبكرًا إلا أن الله شاء ألّا يكون الأمر هينًا علينا.

من يستطيع إنكار أنه لا يفتك بالجسم؟ لا أعتقد أن احدًا خاض تجربة ولو يوم واحد يستطيع الجزم.


مع هذا لا أرى دومًا أن الشفاء يكون بيد المريض فقط، فالأطباء يلعبون دورًا رئيسيًا وكبيرًا به، فإن كتب من نصيبك أن يكون من وقعت بيده يتمتع بكم هائل من الرحمة، فقد كسبت نصف العلاج.. نفسيًا على الأقل.

وعلى العكس تماما؛ إن كان من أتاك لا يعرف منها إلا القليل، صدقًا سوف أدعي لك من كل قلبي أن يرأف الله بك ويصبرك على العلاج.


فأنا أعرف حق المعرفة كيف ستكون حينها، فللأسف نحن أيضًا كُنا ممن ابتلي بطبيب لا يعرف من الرحمة إلا اسمها، وربما لم يسمع بالكلمة أساسا! ولم تكن مغامرة المرض معه شيئًا يمكن تحمله؛ فمنذ البداية قام بفرد عضلاته الطبية وتفاخر ثم انتهى بتهديد وتخويف أمي بأنها«سوف تلاقي مصرعها على يديه، إن لم تتوقف عن الحركة أثناء العلاج.»


فقط ليخبرني أحدكم، ما ذنب المريضة إن كانت تتألم وتحركت؟ هل سوف ينقص من عمره شيء إن تحلى بالصبر؟

لكنه للأسف كان بارعًا في زرع الخوف في نفسها ومن أول مرة، فلم تعد قادرةً على المتابعة لديه وتأزمت نفسيتها كثيرًا. وهكذا اضطررنا للبحث عن دكتور آخر، لكن للأسف كان ذلك المشفى خاليا من جهاز الكي، وآخر جهازه معطل. وهكذا انتظرنا إلى أن يفرج الله همنا.


أخذتنا السنوات إلى أن وصلنا لمفترق الطرق وانتشر المرض بها، عندها بدأنا رحلة الكيماوي.

رغم انتهاء الأمر منذ عدة سنوات، ما يزال جسدي يقشعر عندما يتم ذكر الكيماوي، أعتقد سوف يظل شيئًا لا يمكنني نسيانه مدى حياة، فأصبحت لا إراديا أتذكر معاناتي آنذاك، مثل الثقب الأسود تماما يمتص صحة الإنسان، كان هو أكثر من ساهم بوجعها بشكل أو بأخر!

صراخها كان يدوي بأذني، أنينها لا يفارق عقلي، شكلها وهي مريضة وشعرها يتساقط لا يغادر تفكيري، لكن ما باليد؟ علينا الاستمرار.


ضغطت على نفسي وبقيت معها، كنت حاضرة بجميع جلسات الكيماوي، أراها تبتسم رغم كل الألم، تصادق من بجانبها في الغرفة، رغم أنها سوف تفترق عنه بعد الانتهاء، رأيت بها قوة لم أشاهدها عند مخلوق، لقد كانت فعلًا مثل قمر منير.

رغم ألم المرض، وألم العلاج كانت صامدة، حتى مع علمها أنهم أخطأوا بإعطائها جرعات ليست لها، ستة أشهر على التوالي، إلا أنها لم تصب باليأس، لقد كانت دوما هي من تخفف عن غيرها مصائبهم.


في أشد أوقات مرضها تقف، وبأكثر أيام الألم تبتسم، حتى عندما اضطرت لأخذ إبر كل أسبوعين، وكان هناك إبرة أخرى -غير الكيمياوي- تسريح الدماء، وكنت من سوف أعطيها إياها لم أراها يوما تشكِ. أنا التي كانت خائفة عنها، يداي ترتجفان ولم أستطع إيقافهما، حتى دقات قلبي بدت واضحة تمامًا، لكنها لم تخف أو يرف لها جفن.


لم أشأ أكون من يقوم بإعطائها الإبر فما زالت هي أمي، وأي خطأ واحد كان خطير، أخذت جميع الملاحظات بعين الإعتبار لكني لم أكن أرتاح إلا بعد وضع اللاصق الطبي كدليل على الإنتهاء.


ومع هذا لم تشعرني يوما أنني مبتدئة أو حتى تضعف، كانت تبتسم وتشجعني بأني أخطو أولى الخطوات نحو حلمي وهي بمثابة أول مريضة لدي، لم يكن لديها شك بأني قد أخطئ بوضع الإبرة.


وحتى مع عدم رضاي استمريت على نفس الحال؛ و ما الذي قد تفعله ابنة السبعة عشرعام؟ الشيء الوحيد الذي كنت قادرة عليه هو ازدياد تصميمي على الخوض في غمار الطب والتخصص به، وحاليا أصبحَت ذكرى طريفة، فقد كنت أصرخ بكل قوتي قائلة أني سوف أكون طبيبة تجعل جميع الأطباء يتعلمون منها، سأعطيهم دروسًا به وأشفي غليل قلبي.


وفي شدة غضبي من الوضع كانت هي من تخفف عني، هي من شجعني لأفعل هذا، وهي من أخبرتني أن أساعد جميع المرضى في العالم.


ربما تلك التجربة كانت الحافز للتغيير، فلم اعتبر نفسي صغيرة أو مراهقة؛ بل لا اعترف ببند المراهقة حتى!


لقد تعلمت الكثير منها، ومن مخالطتي للمرضى أكثر. فكما ذكرت سابقا، كنت من يذهب معها للمشافي وساعدت العديد منهم، جلست بقربهم، عرفت حياةً أخرى معهم، وقد صدق من قال إن أكثر الناس صدقا وإحساسا هم المرضى! أعتقد أنهم رأوا الحياة بشكلها الحقيقي فلم يبالوا بالتزييف.


مثل ملائكة السماء؛ قلوب رحيمة، عيون مشرقة، ألم يذكرهم بأن الله أحبهم فابتلاهم دون جميع الخلق.


إنه درس قاسٍ لفتاة صغيرة، لكنه زرع بقلبي يقينًا وإيمانًا «حتى في عتمة الليل تولد شمس مشرقة، وفي عز الألم تخلق ابتسامات وصبر ليس له مثيل.»

ومن خلال هذه التجربة، استقر قلبي وخف لهيب ألمي، ومن حينها بت على يقين بشيء واحد ألا وهو:


لا تعتقد أن المرضى في جميع أنحاء العالم بحاجة لنا لأننا أصحاء؛ فهم أقوى منا بمليون مرة، ولولا ذلك لما استطاعوا احتمال كمية الألم التي لن نعرف نحن المعافين مدى قدرتنا على مقاومتها لو أنها كانت من نصيبنا.


«إذا أحب الله عبدًا ابتلاه.»

مصائبك ليست دومًا دالّة على تقصيرك، فبعضها من محبة الله لأنه أراد أن يختبر صبرك وإيمانك ويثبتك، أو ليخفف ذنوبك، فوالله رب الخير لا يأتي منه إلا كل خير، فاصبر لتكون الجنة من نصيبك إن راد الله.



كتابة: رنيم

مراجعة: فاوانيا


٤٢ مشاهدة٠ تعليق

Comments


bottom of page